كلمة
العدد
في
أحداث الهجرة درس ذكي لكل جيل من الأمّة
تأتي ذكرى الهجرة لتُلْهِمنا كلَّ عام دروسًا ذات أبعاد كثيرة لا تُحْصَى، كلُّها تنصبّ في تشكيل مصدر عطاء سخيّ يهب الأمّةَ الحياةَ والحيويَّةَ، والقوّةَ والاعتزازَ، ويجعلها تتّصل من جديد اتصالاً قويًّا بروح الهجرة المُتَمَثِّلة فيما ارتبط بأحداثها – الهجرة – من قيم قيمّة ومبادئ أصيلة.
والرجوعُ إلى هذه الروح لاستلهام الحياة والقوّة ، هو الأسلوبُ
الصحيحُ لإحياء ذكرى الهجرة، التي غَيَّرت مسيرةَ الدعوة، وجعلتْها قائمةً بذاتها
امتدَّ عطاؤها إلى الشرق والغرب.
هذه المبادئ السامية والقيم المباركة التي كانت روحَ الهجرة، التزم
بها المسلمون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي عهد خلفائه الراشدين؛ فمَكَّنَهم اللهُ في الأرض، وتحقّقت لهم الانتصارات تلو
الانتصارات ، وهابهم الشرق والغرب. وكانت منها – المبادئ والقيم – ضرورةُ الإصرار
على المضيّ قدمًا في طريق الدعوة والعمل الإسلامي باختراق جميع العوائق والحواجز
وعدم المبالاة بالحواجز تُزْرَع باستمرار؛ والتضحيةُ في سبيل المبادئ والقيم عن
طواعية ورضا واستعذاب لكل نوع من العذاب يواجه به أبناءُ الباطل أبناءَ الحقّ؛
والتخطيطُ الراشدُ الدقيقُ النابعُ من الفراسة الإيمانية والإيمان بالدعوة
الإلهيّة والرسالة الربّانيّة؛ والثقةُ المطلقةُ بالله وبوعده؛ وما إلى ذلك من
المبادئ والقيم الراسخة التي تشبّث بها الرعيل الأوّل من أبناء الدعوة وسار على
نهجهم مَنْ بعدهم، فتمّ لهم ما أرادوا، وتذلّل لهم كل الصعاب.
وهي اليوم – وبعد اليوم أيضًا – تنير الطريق أمامَ المسلمين ،
كما أنارتها بالأمس ، والمستلهمُ منها لن يَضيع مهما اشتدَّ الظلامُ، ومهما
بُذِلَتْ محاولاتٌ للبس الطريق وزرع الموانع، ومهما بالغ أبناء الباطل في التخطيط
ضدّهم – المسلمين – وأعملوا ذكاءَهم الإبليسيّ وتعقّلهم الشيطانيّ للحيلولة دونهم
ودون خطّتهم الدعويّة وعملهم الإصلاحيّ واستراتيجيتهم نحو الخير العامّ
للإنسانيّة.
لقد تكثّفت اليومَ المحاولاتُ من أبناء الباطل للبس الطريق على
أبناء الحق بشكل جَعَلَ الأذكياءَ منّا حيارى، وكثرتِ التساؤلاتُ، وكأنّ هذا
الموقفَ شيءٌ غريبٌ لم يحدث في تاريخ الصراع بين الحقّ والباطل. على حين إنّ هذا
الموقف سيبقى قائمًا مادام الصراع باقيًا بينهما، والصراعُ بينهما سنّة إلهيّة لن
يجد لها أحدٌ تبديلاً.
والاستضاءةُ بقيم الهجرة، والالتزامُ بها، والتحرّكُ في دائرتها
ستظل تفتح الطريق، وتزيل كلَّ الموانع، وترفع جميعَ الحواجز، وتقضي على كلّ تساؤل.
أليس الكفار كانوا قد أردوا أن يحجبوا النورَ الإلهيَّ عن كلّ الناس، ويطفئوه
للأبد، فأرادوا أن يثبتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم
– أي يقيّدوه بالوثاق – أو يقتلوه أو يخرجوه، وقد أخرجوه فعلاً عن موطنه الذي
وُلِدَ فيه وبُعِث؛ ولكنهم ما نجحوا في محاولتهم لمنع النور، وسدّ الطريق أمام
الدعوة، وانتشار الرسالة، وتمام المهمة الإلهيّة التي بُعِث النبي صلى الله
عليه وسلم للقيام بها. قال تعالى:
"وَإِذ
يَمْكُرُ بِك الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أو يَقْتُلُوكَ أو يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خير الـْمـٰـكِرِينَ"(الأنفال/30).
لقد أرادوا سدّ الطريق أمامَ المهمة الإلهيّة؛ ولكنها خرجت من
بين أيديهم تشقّ الطريق إلى الأمامَ.. إلى العالم أجمع.. إلى الآفاق الرحبة التي
لم يتصوّروها. لقد كان ذلك إصرارًا على المضيّ قدمًا في الطريق رغم كل الموانع
التي وضعها الكفار أمامها – الدعوة – لتقف حائرة، مسدودة اليدين ؛ ولكنهم أرداوا
شيئًا، وقد أراد الله ضدّه، ولم يكونوا ليغلبوا مكرَ الله وتدبيره المُحْكَم؛
ولكنّهم لم يدعوها – الدعوة – تخرج من بين أيديهم براحة وسلام؛ بل لاحقوها في
طريقها؛ ولكنهم قُوبِلوا من قبلها بخطّة راشدة دقيقة لم يقدروا أن يغالبوها رغم كل
ما بذلوه من جهد جبّار. ثم وَاجَهُوها طويلاً، وتربّصوا بها الدوائر؛ ولكنهم
قوبلوا من أبنائها بتضحية غير عاديّة لم تخطر منهم على بال. وكان حاديهم في ذلك
الثقة بالله تعالى وبوعده بنصره للحق وأهله على كل حال، آخذين بكل سبب من الأسباب
التي كان لابدّ منها لإنجاح الخطّة وإفشال مُخَطَّط الأعداء.
والموقفُ نفسه يُمْنَى به اليومَ المسلمون القائمون على الحقّ؛
فهم يُحَاصَرُون ويُلاَحَقون، ويُصَبُّ عليهم كلُّ عذاب، ويُوَاجَهُون بكلّ تخطيط
ماكر، وتُلْصَق بهم كلُّ تهمة، ويعابون بكل عيب، وتُوْضَع ضدّهم كل دسيسة بعيدة
المدى، تُنَفَّد من بعد، وتُعْمَل بحكمة عجيبة لا ينتبه لها إلاّ من يصطلي بها
ويحترق بنارها. ولايمكن مواجهة الموقف إلاّ بنفس الاستراتيجية التي عمل بها النبي صلى الله
عليه وسلم والمسلمون الذين صحبوه وأيّدوه
ونصروه وائتسوا بأسوته واهتدوا بهديه، ونفّذوا كلّ شيء من تعليماته بشكل حرفيّ .
المسلمون العاديّون – أمثالنا – يعايشون هذا الموقف، فيتعجبون،
ويتساءلون، ولا ينقضي عجبهم، ويقولون: هل الكفر وُجِد ليغلب، هل الباطل قُدِّر له
كلُّ انتصار، هل أبناءُ الشرّ وتلاميذ الشيطان وأتباع إبليس وجنوده هم وحدهم
يقدرون أن يكسبوا كلَّ جولة، وينتصروا في كل معركة، وبالمقابل: هل الهزيمة هي حظّ
أبناء الحق، ونصيب المسلمين المرابطين على الثغر؟!.
إنّ لهم أن يستلهموا من أحداث الهجرة ومبادئها وقيمها ما يجدون
فيه جوابًا كافيا، وعلاجًا شافيًا لكل شكّ يختلج في صدورهم ولكل سؤال يدور في
أذهانهم. إننا مطالَبون بالإصرار على المضيّ قُدُمًا في طريق الحقّ رغم كل
المخطّطات ضدّنا، وكل الدسائس المنسوجة المنفذة لمحاصرتنا وإيقاعنا في الفخّ
واصطيادنا كالطيور.. إننا مطالَبون بتقديم كل تضحية، واستعذاب كلّ عذاب، واختراق
كل الحواجز، وإفشال كل المخطّطات، وعبور كل الموانع بحكمة إيمانيّة ، وفراسة
إسلاميّة ، وتخطيط لايغالبه تلاميذ الشيطان ، بكل ما عندهم من ذكاء إبليسيّ ، ومكر
خبيث ، ودسيسة جهنّميّة، وآلات فتّاكة حديثة ، وأسلحة متطورة أوجدوها – ولا يزالون
عاكفين على إنشاء الحديث الأحدث منها – لمحاربة الإنسانيّة واستئصال كل خير في
الكون ونشر كل بهيميّة في الأرض.
إنّ المسلمين اليوم مُمْتَحَنُون في ذكائهم الإيماني ، وفراستهم
الإيمانيّة ، وحكمتهم الدينيّة. وبقدر ما ينجحون في أداء هذا الامتحان، ينجحون في
الانتصار على الأعداء ، وإفشال مؤامرتهم، وإحباط تخطيطهم، وإحهاض جميع شرّهم
الشامل. لن يجدي اليوم مجرّدُ حماس أعمى، وعاطفة جيّاشة عارية من الاستراتيجية
كمثل التي – على الأقل – توجد لدى الأعداء وكلّ الجاهليّين.
المسلمون بحاجة ماسّة إلى حماس في عمل؛ وإلى عمل في تخطيط؛ وإلى
صبر في عاطفة؛ وإلى ثقة بالله مع إعداد لائق قدرما يستطيعون؛ وإلى تخطيط في فهم
للعصر وانتباه لمكر الأعداء؛ وإلى ثبات على المبدء رغم صعوبة الأحوال، وقساوة
الظروف، وحرج المواقف، وفي يقين بأنّ الله جاعل لهم فرجًا ومخرجًا، إذا صبروا
واحتسبوا؛ لأنّ الله لن يدع الباطلَ يغلب الحقّ.
فلا ينفع مجرد الحماس؛ ولاينفع العمل المحض؛ ولاينفع الصبر
عاريًا من العاطفة؛ ولا ينفع التوكل على الله مع القعود عن الإعداد والتحرك الفاعل
الواعي الذكي المُسْتَلهم من المنهج النبوي، وسلوك الرعيل الأوّل من الصحابة
والتابعين لهم بإحسان؛ ولاتنفع الميوعة والشذوذ عن المبدء الثابت من جرّاء صعوبة
الظروف.
إنّ ما يحدث اليومَ من قبل الأعداء جميعًا ليس شيئًا جديدًا أو
غريبًا في التأريخ الإسلامي الذي شهد دائمًا صِرَاعًا قويًّا مُتَّصِلاً بين الحقّ
والباطل. إنّه شيء ظلّ – وسيظلّ – يتكرّر دائمًا بفصوله وأبطاله وأرضيّته في تاريخ
الإسلام الذي إنما كان عبارةً عن الصراع الشديد القوي بين النور والظّلام. والفرق
كلُّه هو في الصور والألوان ، والمظاهر والمشاهد ، التي لابدّ أن تتبدّل حسب
الزمان والمكان ؛ فلكلّ زمان لونه، ولكل مكان صورته التي تختلف بالتأكيد عن صور
الأمكنة الأخرى التي سبقته أو لحقته.
وأعظمُ مظهر أو أقوى نقطة لتصاعد الصراع كانت ليلة الهجرة التي
قَرَّرَت فيها القوى المُعَادِية للنور الإلهي حسم الأمر مع رمز الهداية محمد صلى الله
عليه وسلم ؛ ولكن الله أبى إلاّ أن يتم
نوره، ويشق له الطريق إلى الأمام من خلال كل الموانع والمتاريس التي وُضِعَت في
طريقه إلى الانتشار.
إنّ أحداث الهجرة بمعانيها العميقة، ودلالاتها الصارخة،
وإشاراتها البارعة، ملهمة لنا ولجميع الأجيال القادمة من الأمة كلَّ ما نريده من
ضوء في سبيل المواجهة مع الأعداء ، مهما كانوا أقوى بأسًا، وأشدّ مراسًا، وأمكر
مؤامرة، وأذكى تخطيطاً، وأحدث أسلحة، وأكثف جيشًا، وأكثر عددًا، وألدغ إيـــذاء،
وألسع عضًّا.
إنّ لنا ولمن بعدنا درسًا ذكيًّا في أحداث الهجرة وأسوة حسنة في
رسولنا وفيمن كان معه؛ فقد قال عزّ من قائل:
"أُولـٰـئِكَ
الَّذِيْنَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَ?ـهُمُ
اقْتِدِه"
(الأنعام/90) .
وقال:
"لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ
وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيْرًا"
(الأحزاب/21) .
( تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الأحد : 15/ ذوالحجة
1429هـ = 14/ ديسمبر2008م )
نور عالم خليل الأميني